قال أبو العتاهية : كان الرشيد يعجبه غناء الملاحين في الزلالات إذا ركبها، وكان يتأذى بفساد كلامهم، وكثرة لحنهم، واستحالة معاني ألفاظهم، فقال يوماً لعيسى بن جعفر وجماعة من ندمائه: قولوا لمن معنا يعمل شعراً لهؤلاء الملاحين حتى يحفظوه، ويترنموا به ويريحوني من هذا الذي أسمعه منهم، فقيل له: ليس أحد أحذق بهذا ولا أقدر عليه، وعلى ما أشبهه من أبي العتاهية، وكان الرشيد قد حبسني وقال: لا أطلقك أو تقول شعراً في الغزل، وتعاود ما كنت عليه، فبعث إلي وأنا في الحبس يأمرني أن أقول شعراً للملاحين، ولم يأمر بإطلاقي فغاظني ذلك، وقلت: والله لأقولن شعراً يحزن به ولا يسره، فعملت شعراً ودفعته إلى من حفظه الملاحين، فلما ركب الحراقة اندفع الملاحون يغنون:
خانَك الطَّرْفُ الطَّمُوحُ = أيُّها القَلبُ الجَمُوحُ
لِدَوَاعِي الخَيْرِ والشّرِّ = دُنُوٌّ ونُزُوحُ
هلْ لمطلوبٍ بِذَنْبٍ = توبةٌ منه نصُوحُ
كيف إصلاحُ قُلُوبٍ = إنّما هُنَّ قُروحُ
أَحْسَنَ اللهُ بنا أَنَّ = الخَطَايَا لا تَفُوحُ
فإذَا المستورُ مِنَّا = بينَ ثَوْبَيْهِ فُضُوحُ
كَمْ رأينا مِنْ عَزِيزٍ = طُوِيتْ عنه الكشُوحُ
صاحَ منه بِرَحِيلٍ = صائحُ الدَّهْرِ الصَّدُوحُ
موتُ بعضِ الناسِ في الأرْ = ضِ على قومٍ فُتُوحُ
سيصير المرءُ يوماً = جَسَداً ما فيه رُوحُ
بين عَيْنَيْ كُلَّ حَيِّ = عَلَمُ الموتِ يلوحُ
كُلُّنا في غَفْلةٍ والْمَوْتُ = يغدو ويروح
لِبَنِي الدُّنيا مِنَ الدُّنْيَا = غَبُوقٌ وصَبُوحُ
رُحْنَ في الوَشْي وأصْبَحْـ=نَ عليِهنَّ المُسُوحُ
كلَّ نَطَّاحٍ مِنَ الدَّهْـ= ـرِ له يومٌ نَطُوح
نُحْ على نٌفْسِك يا مِسْـ = كينُ إنْ كنتَ تنوح
لتَمْوتَنَّ وإنْ عُمِّــرْتَ ... مـا عُمِّر نُـوح
قال فلما سمع ذلك الرشيد جعل يبكي وينتحب , كلما زادوا بيتاً زاد في بكائه ونحيبه ، وكان الرشيد من أغزر الناس دموعا في وقت الموعظة وأشدهم عسفا في وقت الغضب والغلظة .
فلما رأى الفضل بن الربيع كثرة بكائه أومأ إلى الملاحين أن يسكتوا .